مؤتمر "قسد"- تحديات اللامركزية ومستقبل الحوار في سوريا

يثير هذا المؤتمر العاجل، الذي دعى إليه قادة "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) إلى سلسلة من الاستفسارات العميقة حول دوافعه الخفية ومواعيده المريبة، وأيضاً الرسائل السرية التي يتطلعون لتوجيهها بشكل مبطن لكل من الحكومة السورية والمجتمع الدولي.
إذ تجاوز نطاق المؤتمر، بخلاف الأهداف المعلنة ظاهرياً، مجرد توحيد صفوف المكونات المتنوعة في المناطق الخاضعة لسيطرة "قسد" في الجزيرة السورية. بل امتد ليشمل إشراك شخصيتين معارضتين للحكومة، وهما الزعيم الروحي الموقر للموحدين الدروز، الشيخ حكمت الهجري، ورئيس المجلس العلوي الأعلى في سوريا، الدكتور غزال غزال. هذا التوسع أثار استياءً بالغاً لدى الحكومة السورية، التي اعتبرته "تصعيداً بالغ الخطورة"، ونسفاً لجهود التسوية السياسية الجارية.
وعليه، قررت الحكومة السورية الامتناع عن حضور الاجتماعات المزمع عقدها في باريس، معلنة رفضها القاطع للجلوس "إلى مائدة المفاوضات مع أي طرف يسعى جاهداً لإعادة إحياء أساليب النظام السابق تحت أي غطاء أو مسمى".
وبناءً على هذا القرار، تواجه جولة المحادثات المرتقبة في باريس احتمالات الفشل الذريع، خاصةً في ظل غياب أي مبادرة حقيقية لتفعيل بنود اتفاق العاشر من آذار/مارس الماضي، الذي وقعه الرئيس السوري بشار الأسد، والقائد العام لـ "قسد" مظلوم عبدي. هذا الاتفاق نصّ على وقف شامل لإطلاق النار في مختلف الأراضي السورية، مع الاعتراف الكامل بالمجتمع الكردي كجزء أصيل لا يتجزأ من الدولة السورية، مع ضمان حقوقهم الدستورية وحقوق المواطنة الكاملة، كما شدد على دمج "قسد" ومكونات "الإدارة الذاتية" ومؤسساتها في هياكل الدولة السورية.
الأبعاد الحقيقية لأهداف "قسد"
لم تنسق "قسد" خطواتها مع القوى السياسية القريبة منها، مثل المجلس الوطني الكردي، الذي رفض الدعوة المقدمة إليه للمشاركة في المؤتمر. بالإضافة إلى ذلك، اتخذت العديد من العشائر العربية البارزة في مناطق سيطرة "قسد" قراراً بمقاطعة المؤتمر، معتبرةً إياه محاولة مكشوفة لإجبارها على تبني مشاريع وأجندات تخدم مصالح "قسد" ولا تتوافق مع تطلعاتها.
ويبدو جلياً أن قادة "قسد" كانوا يهدفون من خلال تنظيم هذا المؤتمر إلى الضغط على حكومة دمشق لتقديم تنازلات جوهرية فيما يتعلق بمطالبهم. إلا أن هذه المناورة تفتقر إلى الرؤية السياسية الثاقبة، لأنها تنطوي على تقديرات خاطئة، وتعتمد على مقاربة من المرجح أن تؤدي إلى تفاقم مخاوف الحكومة السورية وزيادة التفاف السوريين حولها.
لقد كشف قادة "قسد" من خلال مؤتمر الحسكة عن تحدٍ صارخ لسلطة الحكومة المركزية في دمشق، وذلك عبر التحالف مع قوى معارضة لها، والسعي إلى تعميم تجربة "الإدارة الذاتية" التي يفرضون سيطرتها على إدارة المناطق التي يحتلونها، والتي تشمل أجزاء من محافظات الحسكة والرقة وحلب ودير الزور في شمال شرق سوريا، على اعتبار أنها نموذج ناجح وديمقراطي يستحق التعميم على سائر المناطق السورية. وقد لاقى هذا الطرح تجاوباً في السويداء، حيث تم تفعيله من خلال "اللجنة القانونية العليا" التي شكلها الشيخ الهجري لإدارة شؤون المدينة، والتي بدورها أنشأت مكتباً تنفيذياً مؤقتاً لتولي مسؤولية الخدمات الأساسية، بالإضافة إلى تعيين قيادات جديدة لجهاز الأمن الداخلي، وذلك في ظل غياب سلطة الدولة المركزية عن المحافظة.
وقد تركز الهدف الأساسي للمؤتمر في الدعوة إلى تبني اللامركزية بصيغتها الضيقة ذات الطابع الإثني والطائفي، التي تنحو بشكل خطير نحو الانفصال الفعلي عن الدولة السورية، واعتبارها الحل الأمثل لجميع المناطق في سوريا. ويتعارض هذا التوجه بشكل صارخ مع جهود الحكومة السورية الرامية إلى بناء دولة مركزية قوية، في ظل الصراع المحتدم حول مستقبل سوريا وطبيعة نظام الحكم فيها، حيث تحظى المركزية بتاريخ عريق يمتد منذ نشأة سوريا الحديثة، وأصبحت تتمتع بشرعية راسخة في الوعي السياسي في سوريا وسائر منطقة الشرق الأوسط.
تتجلى رؤية اللامركزية التي يتبناها قادة "قسد" ليس كقضية مفتوحة للنقاش العام بين السوريين، بل بصيغة خطاب أيديولوجي أحادي الجانب، خاصةً لدى المنخرطين في صفوف وحدات حماية الشعب الكردية، الذراع العسكري لحزب الاتحاد الديمقراطي، الذي يسيطر عليه أعضاء من حزب العمال الكردستاني التركي.
وبناءً على ذلك، يصر هؤلاء على الاحتفاظ بهيكلية قوات سوريا الديمقراطية ككيان مستقل في أي عملية دمج محتملة مع الجيش السوري، بالإضافة إلى الحفاظ على هيكلية الإدارة الذاتية ومؤسساتها، وعدم التخلي عن المكاسب والإنجازات التي حققوها خلال السنوات الماضية. وهذا ما يفسر إصرارهم على الاحتفاظ بجميع الملفات التي من المفترض أن تتولى إدارتها الحكومة السورية بموجب اتفاق العاشر من آذار/مارس الماضي، وخاصة المعابر الحدودية مع العراق، والسجون التي يحتجز فيها الآلاف من عناصر تنظيم الدولة الإسلامية، والمخيمات التي تؤوي عائلاتهم.
كما أن القوى المهيمنة على مناطق شمال شرق سوريا تستأثر بالثروات الطبيعية الهائلة الموجودة في مناطق سيطرتها، حيث يتركز فيها الجزء الأكبر من الاحتياطي النفطي السوري، الذي يقدر بنحو 2.5 مليار برميل، وفقاً لإحصاءات إدارة معلومات الطاقة الأميركية.
وتضم هذه المناطق أيضاً أكبر الحقول النفطية، مثل حقل السويدية، وحقل الرميلان، وحقول دير الزور، كحقل العمر، بالإضافة إلى العديد من حقول الغاز السوري الغنية.
وتنتج هذه المناطق ما يقارب نصف الإنتاج الزراعي السوري، الذي يقدر بأكثر من 1.76 مليون طن، وفقاً لإحصائيات عام 2011. بالإضافة إلى ذلك، تضم المنطقة أهم ثلاثة سدود مائية في البلاد، وهي سد "الطبقة" و"البعث" في ريف الرقة، وسد "تشرين" في ريف حلب الشمالي.
خيارات الحكومة المتاحة
لم تجد سلطة دمشق خياراً سوى التأكيد على حق المواطنين في التجمع السلمي والحوار البناء، سواء على مستوى مناطقهم أو على المستوى الوطني، "شريطة أن يتم ذلك في إطار المشروع الوطني الجامع الذي يلتف حول وحدة سوريا أرضاً وشعباً وسيادة".
واعتبرت أن شكل الدولة لا يمكن تحديده عبر تفاهمات فئوية ضيقة، بل من خلال دستور دائم يتم إقراره عبر استفتاء شعبي شامل، بما يضمن مشاركة جميع المواطنين على قدم المساواة، ويحق لأي مواطن طرح رؤاه حول مستقبل الدولة، على أن يتم ذلك عبر الحوار العام وصناديق الاقتراع، وليس عبر التهديد أو القوة المسلحة.
وبالنظر إلى محدودية الخيارات المتاحة أمام حكومة دمشق لأسباب داخلية وخارجية متعددة، فإنه لا بديل عن استمرار الحوار الذي بدأته مع قادة "قسد". لذلك، جددت دعوتها إلى الانخراط الجاد في تنفيذ اتفاق العاشر من آذار/مارس، وطالبت الوسطاء الدوليين بنقل جميع المفاوضات إلى دمشق، باعتبارها العنوان الشرعي والوطني للحوار بين السوريين.
ومما لا شك فيه أن مسألة دمج "قسد" في الهيكل السوري ليست قضية سورية داخلية فحسب، بل هي قضية دولية أيضاً، حيث تلعب كل من الولايات المتحدة وتركيا وفرنسا أدواراً محورية في ترتيبات المشهد السوري الجديد.
وهناك إجماع دولي واسع النطاق على ضرورة استقرار سوريا ضمن دولة موحدة، وبالتالي ستدفع هذه الدول باتجاه فتح نافذة جديدة للحوار بين الحكومة و"قسد"، الأمر الذي يعني الابتعاد عن الخيارات ذات التكلفة الباهظة.
المطلوب سورياً لتحقيق الاستقرار
بعيداً عن التعبئة الطائفية والإثنية، وتبادل الاتهامات بالتخوين، وخطاب الكراهية المقيت، فإن المطلوب بإلحاح هو توسيع نطاق الحوار المجتمعي والسياسي، وعدم الاكتفاء بالتواصل مع جهة واحدة بعينها.
ولعل الأجدر بالحكومة السورية هو الالتفات إلى القوى المدنية والسياسية الفاعلة في جميع المناطق السورية. ففي الجزيرة السورية، لا ينبغي الاقتصار على محاورة "قسد"، لأن هناك قوى سياسية واجتماعية عديدة في مناطق شمال شرق سوريا، يجب إشراكها بفاعلية في الحوار لضمان قاعدة أوسع لأي اتفاق يتم التوصل إليه بين الحكومة وتلك الفعاليات المجتمعية والسياسية والعسكرية.
وينطبق الأمر ذاته على كافة المناطق السورية الأخرى، وخاصة السويداء، التي تزخر بالنقابات والمنظمات وقوى المجتمع المدني النشطة والفاعلين الاجتماعيين المؤثرين، الأمر الذي يحتم إشراكهم في الحوار الوطني الشامل.
تستلزم العملية السياسية الانتقالية المبتغاة البحث عن مبادرات جديدة، وطرح أفكار مبتكرة تتجاوز المفاهيم الضيقة والقوالب الجاهزة الموروثة، وعدم التمسك بها بشكل دائم.
وقد يتيح ذلك التفكير في نظام حكم مركزي مرن في سوريا، يراعي الخصوصية المميزة لكل منطقة، ليس على أسس إثنية أو طائفية بغيضة، ولا يعتمد على المحاصصة المقيتة، إنما يمنح الأقاليم الجغرافية نوعاً من اللامركزية الإدارية الرشيدة، لتمكين أبناء المناطق من إدارة شؤونهم بأنفسهم ضمن إطار الدولة الواحدة الموحدة، ووفقاً للمقتضيات الوطنية السورية العليا.
وبالتالي تبرز ضرورة فتح حوار وطني شامل حول المرحلة الانتقالية الحاسمة، لبحث كيفية إشراك جميع القوى والفعاليات السياسية والاجتماعية في رسم ملامحها المستقبلية، وذلك لتبديد المخاوف والهواجس المتزايدة من استئثار الفصائل العسكرية بمفاصل صنع القرار، ومن قيامها بإقصاء وتهميش باقي المكونات السياسية والمدنية.
ولكي يشعر السوريون بأن مستقبل بلدهم العزيز بات بين أيديهم، فإنه يتوجب عليهم تحمل المسؤولية الكاملة، وعدم الارتهان أو الرضوخ للحسابات الخاطئة والمصالح الضيقة.